مشروع الجزيرة (4) السمات الأساسية لقانون عام 2005م
د. سلمان محمد أحمد سلمان
1
تعرضنا في المقالات الثلاث السابقة في هذه السلسلة من المقالات إلى تاريخ مشروع الجزيرة، وأوضحنا أن من أهم العوامل التي ساعدت على قيام المشروع هي وقوع منطقة الجزيرة بين النيلين الأزرق والأبيض والذي ساعد وأدّى إلى بناء السدود وتنظيم وتوسيع عملية الرّي بالمشروع، بالإضافة إلى طبيعة الأرض المنبسطة التي أوضحت أن مشروع الجزيرة يمكن ريّه عن طريق الرّي الانسيابي الطبيعي. تعرّضنا أيضاً للتطورات في المشروع، وملامحه الأساسية، وأصوله وتركيبته الاجتماعية والاقتصادية وبِنية الرّي التحتية، وكذلك علاقات الانتاج وقضية أراضي الملك الحر بالمشروع. وقد ناقشنا أيضاً الأسباب التي أدّت إلى التدهور في المشروع خصوصاً البنية التحتية للريّ، وتكوين وتقارير اللجان المختلفة لإيقاف ذلك التدهور ومحاولة علاجه، ولماذا لم تأتِ تلك المحاولات بنتائجها المرجوة. وسنناقش في هذا المقال قانون مشروع الجزيرة لعام 2005م.
2
يعتبر صدور قانون مشروع الجزيرة في يوليو عام 2005 من أهم التطورات التي شهدها مشروع الجزيرة منذ إنشائه، إن لم نقل أنه أهم تطورٍ في تاريخ المشروع. فقد أدخل هذا القانون تغييراتٍ جذرية على وضعية المشروع وعلى نمطي الإنتاج والإدارة بالمشروع. ألغى هذا القانون قانون عام 1984م وحلّ محله، كما ألغى أيضاً قانون أراضي الجزيرة لعام 1927م.
يُعرِّف القانون في المادة 4 مشروع الجزيرة بإنه مشروعٌ اقتصادي واجتماعي ذو نشاطٍ متنوع، يتمتع برعاية قومية للتنمية، وله شخصية اعتبارية مستقلة إدارياً ومالياً وفنياً وصفة تعاقبية مستديمة وخاتم عام وله حق التقاضي باسمه. كما أكّد القانون ملكية الدولة ـ ممثلة في وزارة المالية والاقتصاد الوطني ـ لأصول المشروع. وحدّد تكوين المشروع من (1) المزارعين (2) الحكومة ممثلة في وحداتها التي تقدم الخدمات الأساسية ومن ضمنها الرّي والسلع العامة التي تشمل البحوث ووقاية النباتات والتقانة والإرشاد والدراسات الفنية والتدريب، إضافةً إلى الإدارة الإشرافية والتخطيط، (3) القطاع الخاص بما يقدمه من خدماتٍ تجارية مساعدة.
سنّ القانون عدداً من المبادئ الأساسية المهمة، يمكن تلخيصها في الآتي:
3
المبدأ الاول هو مبدأ حرية اختيار المحاصيل الذى تضمنته المادة (5) الفقرة (هـ) من القانون، حيث أوردت،"كفالة حق المزارعين في إدارة شأنهم الإنتاجي والاقتصادي بحرية كاملة في إطار المحددات الفنية واستخدام التقانة للارتقاء بالانتاجية وتعظيم الربحية منها". هذا النص يحتوي على أهميةٍ خاصة . فهو يعني ببساطة الآتي:
أولاً: فك الارتباط التاريخي بين مشروع الجزيرة وإنتاج محصول القطن. ثانيا:ً إنهاء الحلقة الأساسية في علاقات الإنتاج داخل المشروع بين المزارعين وإدارة مشروع الجزيرة والتى تمثلت في زراعة القطن والإشراف عليه وتمويله. وهذا بالطبع تحوّلٌ كبير وجذري، وهو بلا شك أكبر تحولٍ يمر به المشروع منذ إنشائه قبل أكثر من ثمانين عاماً. ورغم أن القانون كان قد صدر في العام 2005م، إلا أن تطبيق هذا المبدأ لم يتم حتى موسم 2007 ـ 2008م، كما سيأتي ذلك لاحقاً في هذا المقال.
كان هذا التحول مثاراً للجدل والخلاف حيث انتقده البعض، بل ورفضوه، باعتبار أنه ينهي الدور التاريخي للمشروع في زراعة القطن، هذا من الجانب الأول، ويلغي، من الجانب الثاني، دور الدولة في تحديد أولوياتها بالنسبة للمحاصيل التي سوف تتم زراعتها، أما من الجانب الثالث فإنهم يرون أن هناك مخاطرة في زراعة محاصيل قد يكون المشروع غير مهيأ لها. وأما على صعيد المرحبين به فإنهم أولاً يرون أن المستأجر في المشروع ولأول مرة يتحول إلى مزارعٍ له حرية اتخاذ القرار فيما يريد زراعته وتحمّل تبعات ذلك كاملةً. ثانياً، إنه ينهي الامتياز القسري لمحصول القطن، أما ثالثاً فإنه يضع حداً للنظام السلطوي لإدارة المشروع بواسطة مجلس الإدارة الذي درج على تحديد المحاصيل وتمويل القطن والإشراف العام عليه.
4
المبدأ الثاني الذي أقره القانون في المادة (16)، هو تمليك الأراضي للمزارعين. وفي هذا الشأن وردت ثلاث معالجات كما يتضح من الفقرة (2)، وهي:
"(أ) المزارعون أصحاب الملك الحر الذين خُصّصت لهم حواشات بموجب تلك الملكية تسجل لهم تلك الحواشات ملكية عين بسجلات الأراضي.
(ب) الملاك الذين لم ُتخصّص لهم حواشات عند التفريقة والذين لهم فوائض أرض وفق الفقرة (أ) تؤول أراضيهم للمشروع مع تعويضهم تعويضاً عادلاً.
(ج) يُملّك بقية المزارعين في المشروع من غير أصحاب الملك (الحواشات) التي بحوزتهم ملكية منفعة لمدة تسعة وتسعين عاماً."
واضحٌ أن هذه المادة قد أنهت الإيجار القسري للأراضي الملك الحر، وقامت بتمليك الأراضي بالمشروع للمزارعين إما ملكية عين أو ملكية منفعة. كما أنها قضت بنزع الأراضي من غير المزارعين وتعويضهم تعويضاً عادلاً. هذا هو أيضاً تحولٌ جذري ينهي الإجارة القسرية التي استمرت لأكثر من ثمانين عاماً، غير أن تطبيق هذه المادة ما زال بعيد المنال وذلك لمطالبة المالكين بمبالغ ضخمة تمثل كلاً من الإيجار منذ عام 1972م، والتعويض عن أراضيهم التي سيتم نزعها. وما زال الجدل والسجال دائراً حول هذه المسألة ووصل حدّ التقاضي أمام المحاكم.
5
المبدأ الثالث الذي أقره القانون هو إعطاء المزارع الحق في التصرف في الحواشة بالبيع أو الرهن أو التنازل وفق الموجّهات التى يضعها المجلس. وقد ورد هذا المبدأ في المادة (17) من القانون وأثار الكثير من الجدل حيث اعتبره البعض امتداداً لحرية المزارع في ترك الزراعة ببيع حواشته ومن ثمّ التحول إلى عملٍ آخر إن أراد ذلك. كما رأى البعض أن ضمان حق الرهن يفتح إمكانيات تمويل كبيرة للمزارعين. من جانبٍ آخر هناك منْ رأى أن إقرار مبدأ كهذا سيشجع المزارعين على هجر الزراعة وسيؤدي بهم إلى خسارة أراضيهم المرهونة في حال عجزهم عن سداد ديونهم.
لابد من الإشارة هنا إلى أمرين الأول هو أن تطبيق هذا المبدأ لم يتم بعد لأن نقل ملكية الأرض للمزارعين لم يتم بعد هو الآخر. أما الأمر الثاني فهو أن ملكية الحواشة قد تمّ تقييدها بشروطٍ محدّدة في المادة 16 من القانون نفسه تلخصت في استغلال الحواشة لأغراض الزراعة فقط، عدم تفتيت الملكية وأخيراً في حالة بيع الحواشة أو التنازل عنها يتم تطبيق أحكام الملكية بالشفعة.
6
المبدأ الرابع وهو إنشاء روابط مستخدمي المياه لإدارة وصيانة وتشغيل قنوات الحقل بالمشروع. وهذا المبدأ أقرته المادة (19) من القانون حيث نصت على الآتي: "(أ) تُنشأ روابط لمستخدمي المياه تحت إشراف المجلس على مستوى المشروع تمثل الإدارة الذاتية للمزارعين ذات شخصية اعتبارية وتسلَّم لها مهام حقيقية في إدارة استخدامات المياه بالتعاقد مع وزارة الرّي والموارد المائية في مجال الإمداد المائي والاستشارات الفنية."
"(ب) تنشئ وزارة الرّي والموارد المائية إدارة خاصة لريّ مشروع الجزيرة."
تعرّضت فكرة روابط مستخدمي المياه إلى نقدٍ عنيف داخل وخارج المشروع، ومن ضمن ما أُثير في ذلك النقد أولاً أنها فكرة غريبة على السودان ولم تطبّق من قبل في أى مشروعٍ زراعى. ثانياً، أنها فكرة تخص وترتبط بالدول التي تعاني من شح المياه ومصادرها. ثالثاً، أن تطبيقها يلغي دور وزارة الرّي ومجلس الإدارة ويحيله إلى المزارعين. ورابعاً، أن المزارعين غير مؤهلين للقيام بهذا الدور. ومن ضمن النقد أن هذه الروابط تخلق وسيطاً جديداً بالإضافة إلى وزارة الرّي ومجلس الإدارة، وأنها ستؤدى ً إلى فصل الشبكة الصغرى عن الشبكة الكبرى.
لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن فكرة روابط أو اتحادات مستخدمي المياه ترجع في بروزها إلى سبعينيات القرن الماضي وقد تمّ تطبيقها في عدة أقطار من العالم. وقد قمتُ عام 1995م بإعداد دراسة بعنوان "الإطار القانوني لاتحادات مستخدمي المياه"، وقد قام البنك الدولي بنشرها في عدة لغات .وهذه الدراسة واحدةٌ من الدراسات المقارنة القليلة التي تناولت تلك الفكرة. ورغم أن الدراسة عالجت الإطار القانوني لروابط واتحادات مستخدمي المياه، إلا أنها ومن ضمن ما خلصت له هو أن مشاركة المزارعين عبر اتحادات مستخدمي المياه المُنتخبة ديمقراطياً والمسجلة كشخصيةٍ اعتباريةٍ قانونية في إدارة وتشغيل وصيانة أجزاء من أنظمة الرّي، قد أدت فعلياً إلى الآتي:
1- الاستخدام المرشّد للمياه والذي أدّى وبالنتيجة إلى وفوراتٍ فيها.
2- ازدياد إمكانية الصيانة الجيّدة لمرافق الرّي.
3- تقليل تكلفة التشغيل والصيانة بصورةٍ كبيرة.
4- وضع الحد لمركزية تقديم الخدمات.
5- تمليك المزارعين وتمكينهم من صلاحيات إدارة شئونهم.
وقد قمتُ بإعداد ونشر دراسة في عام 2005م تحت عنوان "الإطار القانونى لإدارة الموارد المائية". تبين من نتائج تلك الدراسة أن هناك أربعة عشر دولة من ضمن الستة عشر دولة التي شملتها الدراسة قد قامت بتبني فكرة "اتحادات مستخدمي المياه" وطبقتها بصورة مكثفة وتأكّد نجاحها في تحقيق أهدافها، وأن الإصلاح المؤسسى في قطاع الرّي في معظم أنحاء العالم قد تبنّى فكرة إنشاء روابط مستخدمى المياه. بل إن بعض الدول قد شكّلت اتحاداتٍ لهذه الروابط وأناطت بها مسئولية تشغيل وصيانة القنوات الكبرى والرئيسية، وأنه في دولة شيلى قامت هذه الروابط بشراء القنوات والخزانات من الدولة وتقوم بإدارتها كمالكٍ وليس فقط تحت عقد إدارة.
لم يُكْتب النجاح لتجربة روابط مستخدمي المياه بمشروع الجزيرة لعدّة أسباب. فقد صاحب إنشاء الروابط الكثير من الاستعجال فلم يتم تدريب وتأهيل لجان الروابط بصورةٍ كافية. كما أن كثيراً من المعارضين يدّعون أن الروابط تخضع لإشراف وتوجيهات اتحاد المزارعين وإدارة مشروع الجزيرة وأنها ليست مستقلةً قانونياً أو إدارياً أو مالياً. ولكن أهم من هاتين النقطتين مسألة الوضعية السيئة للقنوات التي ستديرها روابط مستخدمي المياه. فقد نصّ قانون مشروع الجزيرة لعام 2005م في المادة 28.(4) على أنه "يتم تسليم قنوات الحقل لروابط مستخدمي المياه بعد تأهيلها". وبما أن التأهيل لم يتم بعد فإن روابط مستخدمي المياه التي تمّ تكوينها لم تستطع أن تقوم بالصيانة والتشغيل لهذه القنوات بسبب وضعها السيئ.
7
المبدأ الخامس: تقليص دور مجلس الإدارة: تعرّض القانون لتشكيل وتحديد اختصاصات وسلطات مجلس إدارة مشروع الجزيرة. ويتكوّن المجلس من رئيسٍ يعينه رئيس الجمهورية وأربعة عشر عضواً. ويُمثّل المزارعون في المجلس بنسبة لا تقل عن 40% من عضوية المجلس. ويشمل المجلس أيضاً ممثّل للعاملين بالمشروع وممثلين للوزارات المختصة (تشمل المالية، الزراعة، الرّي، التقانة، بنك السودان، ووزارة الزراعة بإقليم الجزيرة.) قلّص القانون دور المجلس تقليصاً واضحا, وتتضمن المادة 9ً اختصاصات مجلس الإدارة والتى تتلخص في:
أولاً: وضع الأسس العلمية للدراسات البحثية والاقتصادية والاجتماعية اللازمة لحسن استخدام موارد المشروع لتحقيق أعلى معدلات ربحية ممكنة.
ثانياً: وضع السياسات التشجيعية العادلة لتنفيذ سياسات الدولة الإستراتيجية للمحاصيل الزراعية.
ثالثاً: إدارة وتطوير الخدمات الأساسية المتمثلة في البحوث ووقاية النباتات والتقانة والإرشاد وإكثار البذور والتدريب والطرق الداخلية.
رابعاً: إرساء نظام تكافلي يسمح بتعويض المزارع المجد حال تعرّضِه للآفات والكوارث الطبيعية.
خامساً: وضع المحددات الفنية للتركيبة المحصولية والدورة الزراعية.
سادساً: اعتماد الخطط والبرامج المرفوعة من المدير العام (والذى يقوم بتعيينه المجلس).
سابعاً: تحديد فئة خدماته التي يؤديها بالتنسيق والاتفاق مع الجهات المختصة ويتم تحصيلها من المزارعين بواسطة روابط مستخدمي المياه.
يتضح من هذا العرض أن دور المجلس قد تقلّص وأصبح ينحصر في البحوث والاستشارات والدراسات ووضع السياسات الزراعية، وأن عليه أن يتحصل على رسوم خدماته من المزارعين. كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أن إلغاء نظام زراعة القطن القسرية أدّى إلى التقليل من اعتمادات المجلس المالية بسبب تناقص دخل المجلس من عائدات تمويل محصول القطن والمدخلات الزراعية.
8
هذه هى المبادئ الخمسة الأساسية التى يرتكزعليها القانون. ولابد من الإشارة هنا إلى أنه من بين هذه المبادئ لم يتم غير تطبيق مبدأ حرية اختيار المحاصيل، والذي طُبِق في الموسم 2007م/2008م. وبمقارنة بينه والموسم السابق 2006م/2007م نجد أن المساحة المزروعة قطناً قد تقلّصت إلى حوالي 90 الف فدان في ذلك الموسم بدلاً عن حوالي 250,000 فدان في الموسم السابق، بينما زادت المساحة المزروعة قمحاً لتصل إلى حوالي 427,000 فدان وقد كانت حوالي 294,000 فدان في الموسم الماضي. وهذا الابتعاد الكبير عن زراعة القطن لا بد أن يكون مؤشراً على تجربة المزارعين مع محصول القطن من النواحي الاقتصادية والفنية والإدارية وغيرها من المناحي.
كذلك تمّت إعادة تشكيل مجلس الإدارة حسب مقتضيات المادة 6 من القانون. ويُلاحظ أن وزير الزراعة لم يعد رئيساً للمجلس وهذا تأكيدٌ للوضع الذى ساد في السنوات الخمس التي سبقت صدور القانون، خلافاً لما تضمنته القوانين السابقة للمشروع.
نختتم هذا المقال بتصريح السيد الزبير بشير طه والي ولاية الجزيرة إلى جريد الرأي العام يوم 18 أكتوبر عام 2011م، والذي أقرّ فيه "بتلف (70 - 100) ألف فدان بمشروع الجزيرة بسبب العطش، وأشار إلى أنّ (70%) من منظومة الرّي بالمشروع تحتاج لعمل، وقال إن بعض المواطنين في الولاية يشربون مع الأنعام، وأوضح الزبير أن ولاية الجزيرة وقعت اتفاقاً مع الصين بمليار دولار العام الماضي للتنمية، سلمت لرئاسة الجمهورية ووزارة المالية بغرض توفير الضمان من بنك السودان المركزي، إلا أنه لم يحدث شئ حتى الآن."
هذا يؤكّد بجلاء إقتناع المسئولين أنفسهم بالحاجة الماسة والعاجلة لإعادة تأهيل شبكة الرّي بمشروع الجزيرة بتنظيف شرايين المشروع من كميات الطمى الهائلة التي تراكمت على مدى السنوات الماضية في هذه القنوات، وإعادة الحياة إليها.
سنتعرّض في المقال القادم والأخير من هذه السلسلة من المقالات لملاحظاتٍ عامةٍ عن المشروع وعن آفاق ومتطلبات المستقبل.