مشروع الجزيرة (2)- الخلفية التاريخية والملامح الرئيسية
د. سلمان محمد أحمد سلمان
1
تناولنا في المقال السابق من هذه السلسلة من المقالات تاريخ وسياق نظام الرّي في مشروع الجزيرة، وأوضحنا أنه قد تضافرت عوامل كثيرة في نجاح التجربة ومن ثَمَّ ميلاد وتطور مشروع الجزيرة. وأهم هذه العوامل هي وقوع منطقة الجزيرة بين النيلين الأزرق والأبيض والذي ساعد وأدّى إلى بناء السدود وتنظيم وتوسيع عملية الرّي بالمشروع. العامل الثاني هو طبيعة الأرض المنبسطة التي تعني أن مشروع الجزيرة يمكن ريّه عن طريق الرّي الانسيابي الطبيعي، وهذا يشير بدوره إلى أن تكلفة عملية الرّي ستكون قليلةً جداً مقارنةً بالرّي الصناعي. ناقشنا كيف تمّ التوسع في المشروع لتصل مساحته إلى أكثر من مليوني فدان، وكيف توسعت شبكة الرّي بالمشروع ليصل طولها إلى أكثر من مائةٍ وخمسين ألف كيلومتر، تحمل سنوياً حوالي ثمانية مليار متر مكعب من مياه النيل لريِّ مشروع الجزيرة، وهذه الكمية تمثّل أكثر من 50% من استخدامات السودان من مياه النيل.
أوضحنا في ذلك المقال المفاوضات الشائكة التي دخل فيها السودان والتكلفة الكبيرة والتي فاقت المائتي مليون دولار لبناء خزاني سنار والروصيرص والبنية التحتية لرّي المشروع، وجادلنا أنه لهذه الأسباب مجتمعةً لايمكن القول أن الرّي في مشروع الجزيرة هو تكميليٌ للأمطار. أثرنا في نهاية المقال السؤال: ما الذي حدث لتلك الشرايين وشلّ قدرتها على توصيل المياه إلى الحواشات، وأفقدها الترابط والاستمرارية، وأفقد المشروع كفاءته وانتاجيته العالية، وكينونته ومكانته ليس في العالم بل حتى بين المشاريع الزراعية في السودان؟
قبل الإجابة على هذا السؤال سيكون مفيداً أن نًلقي بعض الضوء على الملامح الأساسية والخلفيّة التاريخية والاجتماعية والاقتصادية لمشروع الجزيرة، بما في ذلك قضية الأراضي.
2
الملامح الأساسية لمشروع الجزيرة:
معلومٌ أن الحديث عن مشروع الجزيرة قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بمسالة زراعة القطن في السودان، وقد أصبح من غير الممكن التفكير في مشروع الجزيرة دون ربطه بالقطن. ولقد لعبت عوامل كثيرة دوراً في ترسيخ ذلك الربط منها سياسة الدولة، ووسائل الإعلام بكل أشكالها، وكذلك المناهج التعليمية في المراحل المختلفة، حيث كان الضوء مُسلّطاً على مشروع الجزيرة وإنتاجه للقطن وآثار ذلك على الخزينة والدخل القومي، ومن ثمّ على التنمية في السودان بشكلٍ عام.
من الملامح الأساسية لمشروع الجزيرة هي مساحته والتي تبلغ 2,2 مليون فدان. تم تنظيم هذه المساحة في 18 قسم تراوحت مساحة كل قسمٍ بين 60 ألف إلى 190 ألف فدان. وتمّ تقسيم كل قسم إلى عدة تفاتيش ـ وهي جمع تفتيش. تفاوت عدد تفاتيش الأقسام بين 4 إلى 8 تفاتيش للقسم الواحد.وكذلك تمّ توزيع التفتيش الواحد إلى نِمر ومفردها "نمرة"، ومساحة النمرة الواحدة تساوي 90 فداناً. ينتهي التنظيم في تقسيم النمرة الواحدة إلى حواشات، وتتفاوت مساحة الحواشة بين 10 و40 فدان في الجزيرة رغم أن معظم الحواشات مساحتها 20 فدان. أما في المناقل فتتراوح مساحة الحواشة الواحدة بين 7,5 إلى 30 فدان رغم أن معظم الحواشات مساحتها 15 فدان. من بين أشكال التنظيم نكتفي بتفصيل الأقسام لأنها أكثر الوحدات تلخيصاً لملامح المشروع، كما وأنها تلعب دورهاً في الطريقة التي يُعتمد عليها في انتخاب واختيار الممثلين في تنظيم الزراع النقابي والمعروف بـ "اتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل". تلك الأقسام هي:
(1) القسم الجنوبي (2) قسم الحوش (3) القسم الأوسط (4) قسم المسلمية (5) قسم وادي شعير (6) قسم ود حبـوبه (7) القسم الشمالي (8) القسم الشمالي الغربي (9) قسم أبو قوته (10) القسم الشرقي (11) قسم المكاشفي (12) قسم الشوال (13) قسم الجاموسي (14) قسم الماطوري (15) قسم معتوق (16) قسم المنسي (17) قسم التحاميد، وأخيراً (18) قسم الهـدى.
ويُلاحظ أن القسم الشرقي هو القسم الوحيد الذي يقع خارج منطقة الجزيرة ولا يُروى من الخزان، حيث أنه يقع في منطقة شرق النيل ،ويُروى بالطلمبات. يتبع هذا القسم إدارياً لمشروع الجزيرة ويضم كلاً من ود الفضل، حدّاف، والحرقة/ نور الدين.
3
التركيبة الاجتماعية والاقتصادية :
يضم المشروع حوالي 128 ألف زارع، ويكوّنون مع أسرهم حوالي مليون نسمة. هناك حوالي 150 ألف عامل موسمي، ويكوّنون مع أسرهم أكثر من مليون نسمة، ويعيشون في أوضاعٍ اقتصاديةٍ سيئة، ويقيم معظمهم في معسكرات تعرف بـ"الكنابي"، والواحد منها "كمبو". بلغ عدد العمال والموظفين خلال الثمانينيات من القرن الماضي حوالي عشرة ألف، خصوصاً بعد الانتقال إلى الحساب الفردي والذي احتاجت الإدارة بسسببه إلى عددٍ كبيرٍ من المحاسبين. وقد تقلّص هذا العدد تدريجباً إلى بضعة آلاف، ثم بضعة مئات خلال الأعوام الماضية. ويعتبر هذا النقص واحداً من المؤشرات على التحولات الكبيرة التي مرت وتمر بالمشروع.
يقع ثلث ولاية الجزيرة تحت إدارة المشروع ويتأثّر 80% من سكان الجزيرة، والبالغ عددهم حوالي ستّة مليون نسمة، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر بالمشروع، وتُمثّل ولاية الجزيرة في مجلس إدارة المشروع. ولابد من الإشارة إلى أن بالمشروع ثروةً حيوانية كبيرة تُقدر بحوالي ثلاثة مليون رأس من المواشي.
كانت أصول المشروع التي تمتلكها الدولة ممثلةً في وزارة المالية تتكون، وحتى وقتٍ قريب، من الآتي:
(1) الأراضي التي تملكها الحكومة والتي تبلغ مساحتها حوالي 1,3 مليون فدان. (هناك حوالي 900 الف فدان المتبقية هي أراضي ملك حر، كما سنناقش لاحقاً).
(2) مراكز الخدمات، أو مراكز التكلفة، والتي تشمل:
* 14 محلجاً، 7 منها في مارنجان، 6 في الحصاحيصا، ومحلج واحد في الباقير.
* الورش الهندسية (وعددها 18).
* سكك حديد الجزيرة، وتغطي حوالي 1300 كيلومتر.
* شبكة الاتصالات.
(3) أسطول من السيارات والآليات (تركتورات وحاصدات).
(4) حوالي 444 مخزن سعتها التخزينية تُقدر بحوالي 2,5 مليون طن.
(5) مباني سكنية (حوالي 6155 منزل متوسط الحجم، و76 سرايا، وعمارتين ببورتسودان).
(6) حوالي 200 مكتب.
(7) 78 مرافق عامة (مدارس ومراكز صحية وخدمية).
(8) حوالي 53 مصفاة لتنقية المياه.
(9) شبكة للطرق.
(10) هيئة البحوث الزراعية، والتي كانت فيما سبق تعرف بـ "محطة أبحاث الجزيرة."
(11) شبكة الرّي التي تحدثنا عنها فيما قبل.
4
علاقات الإنتاج:
ارتكزت وبدأت فكرة مشروع الجزيرة على علاقةٍ وشراكةٍ ثلاثية بين الحكومة وشركة السودان الزراعية والزراع. فالحكومة هي التي تملك السد والقنوات والأراضي ( سيأتي بحث موضوع الأراضي لاحقاً). والشركة هي التي تقوم بإدارة المشروع وأيضاً التمويل ـ وقد كان للقطن فقط ولم يشمل أي محصولٍ آخر ـ وتشرف كذلك على إنتاج القطن. وأخيراً، الزراع وهم الذين يقومون بزراعة القطن في الحواشات تحت إشراف الشركة.
وتجدر الإشارة إلى أنه من المسائل ذات الطابع المعقّد التي واجهت الحكومة والشركة هي محاولة تحديد إسم لهولاء الزراع. وقد ذهب التفكير فيها مناحي مختلفة، أولاً هؤلاء الزراع لا يملكون الأرض، وليست لديهم حرية القرار فيما يزرعون ولا حرية تمويله أو حتّى تسويقه، فلذلك لا يمكن تسميتهم "مزارعين". ثانياً برزت فكرة تسميتهم "شركاء"، إلّا أن النظر صُرِف عن ذلك الإسم لأن طريقة تقسيم الأرباح التي كانت تُطبق وقتها لم تكن تعكس الفكرة الحقيقة للشراكة، لأن الأرباح كانت تُوزع بعد خصم تكلفة الإنتاج من الزراع. ثالثاً تناولت بعض المكاتبات إمكانية تسميتهم بـ "عمال زراعيين" ولكنه لم يتم اعتماد هذا الإسم لأن العامل يستحق "أجراً ثابتاً" أو التزاماً بأجرٍ من مستخدمه نظير عملٍ محدد، وليس جزءاً من الأرباح كما كان مُطبقاً وقت قيام المشروع، حيث كانت الأرباح تُوزّع على أساس النسب، كما سنناقش بعد قليل.
وأخيراً استقر الرأي على تسمية هؤلاء الزراع "مستأجرين". وهي تسمية، برغم استقرار الرأي عليها، إلّا أنها ليست دقيقة، لأن المستأجرين أنفسهم، وكما هو معلومٌ، لديهم شيئٌ من الحرية في شأن الأرض التي يستأجرونها، على الأقل في كيفية استخدامها، إلّا أن الزراع في مشروع الجزيرة لم يكونوا يتمتعون بأي قدرٍ من هذه الحريّة.
أمّا نسب توزيع الأرباح عند بداية العمل بالمشروع فقد كانت كالآتي: الحكومة نصيبها 40%، الزراع نصيبهم 40%، والشركة الزراعية نصيبها 20%. ظلت تلك النسب ساريةً من عام 1925م وحتى عام 1950م، وهو العام الذي انتهى فيه العقد مع شركة السودان الزراعية وحلّ مكانها مجلس إدارة مشروع الجزيرة. فقد تمّ في ذلك العام تعديل نسبة أرباح الزراع برفعها إلى 42% والحكومة إلى 42% وحُدّدِت نسبة إدارة مشروع الجزيرة بـ 10%. كما تم إضافة البنود التالية: الخدمات الاجتماعية، والمجالس المحلية، وصندوق الاحتياطي وحُدّدِت نسبة 2% لكل منها. وفي عام 1965م، وتقديراً لدور المزارعين في ثورة أكتوبر، فقد تمّ رفع نسبة أرباحهم إلى 48% وخُفّضت نسبة أرباح الحكومة إلى 36%.
وفي عام 1981م تم استبدال الحساب المشترك (والذي كان يتم بقتضاه خصم التكلفة الإجمالية لكل الزراع من العائد الإجمالي لمحصول القطن وتوزيع الباقي على الزراع)، بالحساب الفردي (والذي يتحمل فيه كل زارع تكلفة انتاج قطنه منفرداً). وتبع هذا التغيير إدخال نظام الرسوم الإدارية والتي يدفع بمقتضاها كل زارعٍ رسوم الأراضي والمياه. وهذا تحولٌ أثار الكثير من الجدل.
ولابد من ملاحظة أن نظام توزيع الأرباح بعد خصم كافة تكاليف الإنتاج كان ينقصه العدل تجاه المزارعين، خاصة في السنوات التي تدنى فيها إنتاج القطن كما حدث في الثلاثينيات من القرن الماضي. ولمعالجة هذا الوضع فقد اتفقت الحكومة والشركة على السماح للزراع بزراعة خمس أفدنةٍ من الذرة وخمس أفدنةٍ أخرى من اللوبيا وذلك لاستخدامهم الخاص دون شراكة مع الحكومة أو الشركة الزراعية أو إدارة المشروع لاحقاً. كما أن اتفاقية الإيجار التي أقرت مبدأ الشراكة الثلاثية قد أعطت الشركة الزراعية الحق في أن تقوم بأي دورٍ للمستأجر حال فشله القيام به، على أن تُخصم التكاليف المترتّبة على ذلك من أرباح المستأجر (وعُرِف هذا النظام بـ الطُلْبة).
ويلاحظ كذلك أن التركيبة المحصولية للدورة الزراعية في المشروع قد شهدت هي الأخرى تغييراتٍ مختلفة قبل أن تستقر في الفترة بين أوائل تسعينيات القرن الماضي وحتى عام 2005م على زراعة (1) القطن، (2) القمح، (3) الفول السوداني والخضروات، (4) الذرة، و(5) البور. وقد تمّ إلغاء التركيبة المحصولية بموجب قانون مشروع الجزيرة لعام 2005م، كما سنناقش لاحقاً.
5
قضية الأراضي بالمشروع:
بعد أن استقرت الأمور لإدارة الحكم الثنائي، بدأت في تسوية وتسجيل الأراضي التي استطاع مستعملوها إثبات ملكيتها. وجدت الإدارة أن جزءاً من الأراضي التي سيقوم عليها مشروع الجزيرة هي ملكٌ حر لبعض الأفراد. وبناءاً عليه، وبعد عدة مداولات قررت الإدارة ألّا تنزع هذه الأراضي من أصحابها للصالح العام وتعوضهم كما يقر القانون. جاء القرار بشكله ذلك لعدة اسباب، منها الخوف أن يؤدي نزع هذه الأراضي إلى اضطراباتٍ وثورات،.وكذلك الخوف ألّا تنجح زراعة القطن، والتي هي الأساس الذي قام عليه المشروع، إضافةً إلى التكلفة العالية للتعويضات التي كانت ستُدفع لملاك الأراضي في حالة نزع هذه الأراضي. وقد كان أن نزعت الحكومة بعض الأراضي لإقامة المباني والقنوات وقامت بدفع تعويضٍ وقدره جنيهاً واحداً عن كل فدان.
لهذه الأسباب تقرّر أن يتم تاجير الأراضي الملك الحر من ملاكها إيجاراً قسرياًّ بواقع عشرة قروش ـ أي ريال ـ للفدان في العام الواحد. ومن ثمّ تضاف تلك الأراضي إلى الأراضي الحكومية، ويتم تأجير هذه الأراضي كلها في شكل حواشات للمزارعين حتى ولو كانوا ملاكاً.
على إثر ذلك صدر قانون "أراضي الجزيرة" لعام 1927م لأجل تقنين وتنظيم ايجار الأراضي الملك الحر للحكومة ولمدة 40 عاماً، انتهت في العام 1967م. وهو العام الذي طالب فيه بعض الملاك ـ وهم وراثٌ في غالبيتهم ـ بإعادة أراضيهم إليهم، في حين طالب آخرون منهم بزيادة الإيجار ليواكب الأسعار وقتها. وتبلغ الأراضي التي يملكها أصحابها ملكاً حراً حوالي 900,000 فدان من جملة أراضي المشروع البالغة 2,2 مليون فدان، أي حوالي 40%.
رفض الملاك استلام الـ 10 قروش منذ عام 1972م مطالبين بتعديلها إلى ما يعادل القيمة الحقيقية للـ 10 قروش في العام 1927م. فبرغم تكوينهم لجمعيتهم المعروفة بـ "جمعية ملاك أراضي مشروع الجزيرة"، وتمثيلهم في عدة لجان، بل وبرغم صدور قانون مشروع الجزيرة لعام 2005م، (والذي يؤكد الملكية ولكنه ينزع هذه الأراضي مقابل تعويضٍ عادل) فإن مسالة الأراضي في مشروع الجزيرة لم يتم حسمها بالشكل الكافي والنهائي بعد. وقد كُونت عدّة لجان للنظر في هذه المسألة، وأصدرت عذّة تقارير. ومنذ عام 1972م ظلّ موضوع "أراضي الملك الحر بمشروع الجزيرة"، موضوعاً تتناقله أيدي اللجان حتى يومنا هذا. ومن أميز اللجان التي تناولته اللجنة التي ترأسها المستشار القانوني الأستاذ عبدالله أحمد مهدي والتي أصدرت تقريرها عام 2003م. ويمتاز هذا التقرير بالدقة والعمق في تحليل مسألة الأراضي هذه. وهنا لابد من القول بأنه ما لم تتم معالجة هذه المسالة وبقدر إلحاحها فإنها ستكون حجر عثرة في طريق تطور المشروع.
هكذا كان مشروع الجزيرة قبل أن يبدأ رحلة الترهل والتدهور والتي امتدت بصفةٍ خاصة إلى بنية الرّي التحتيّة كما سنناقش في المقال القادم.